د. محمد الخالدي
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا
وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
«الإمام الشافعي»
وجدت عن طريق الصدفة، وأنا في زيارة لدبي مؤخرا، كتابًا فريدًا في طرحه. كان الكتاب بعنوان «العرب، وجهة نظر يابانية،» للكاتِب الياباني المستعرب «نوبوأكي نوتوهارا» وقد صدرت طبعته الأولى في العام 2003م.
بدأ الكاتب حياته طالبًا في قسم الدراسات العربية بجامعة طوكيو، ثم أستاذًا للأدب العربي المعاصر في القسم نفسه، وقد قضى نحو أربعين عامًا يجوب البلاد العربية ويتابع الرواية العربية ويعيش حياة العرب في المدينة والريف والبادية. وهو من موقعه كمراقب مقارن جاء من ثقافة مختلفة تمامًا، ومن منطلق حبه للشخصية العربية، أراد أن يهدي لنا هذا الكتاب.
والكتاب كما أراه من الكتب النادرة التي فحصت الشخصية العربية ودرست المجتمع العربي بشكل عميق غير منحاز، وأوضحت لنا درجة التباين بيننا وبين مجتمع آخر هو اليابان، في مفاصل مهمة لها علاقة بتقدم المجتمعات وتطورها. والقارئ المتأمل لهذا الكتاب لا يمكن إلا أن يعترف لكاتبه برهافة الحس والتزامه بمبدئيته، وعلى رأس ذلك، موقفه الواضح والمنصف تجاه قضية العرب المركزية، فلسطين.
وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا في بعض طروحاته وتشخيصه لوضع العرب الاجتماعي والثقافي والسياسي، فالكثير من وجهات نظره أراها صائبة ودقيقة. وسأقتطف هنا أهم ملاحظاته. ولعل من أهم ما لم يقله، أنه برؤيته الثاقبة وتجربته الحية، نظر إلى العرب كأمة واحدة رغم اتساع الجغرافيا وتباين الأوضاع السياسية والاقتصادية فيها.
أول ما لاحظه من خلال حياته في بعض الأقطار العربية، هو غياب العدالة الاجتماعية. ففي ظل عدم سيادة القانون على الجميع وغياب الحرية، تتعرض حقوق الإنسان للخطر. ويرى أن ذلك هو منشأ القمع الذي يتعرض له الإنسان العربي. فالعربي في نظره لا يشعر بأن له قيمة. فالقمع يبدأ من سلطة الأب في المنزل إلى سلطة المعلم في المدرسة، فيألف الطفل القمع كجزء من وجوده. كما أن المجتمع العربي يتميز قمعه أيضا بفكرة النمط الواحد، فهناك زعيم واحد، ورأي واحد، ومذهب واحد، ولباس واحد.
وهو يرى أنه في مجتمع تغيب فيه العدالة، ويسود القمع، وتذوب فيه الشخصية الفردية، فإنه يغيب الوعي بالمسؤولية. فتجد أن المواطن العربي لا يشعر بمسؤوليته تجاه الممتلكات العامة، كالمدارس، والمستشفيات، والمتنزهات العامة، والشوارع، ووسائل النقل، والشواطئ، والغابات. بل قد يسعى لتدميرها لأنه يربط غالبًا بين الممتلكات العامة والسلطة القمعية، فيدمر بلده لا السلطة.
وقد انتبه الكاتب إلى أن سياسة القمع تمتد أيضًا إلى المعارضة. فحزب المعارضة عند العرب هو سلطة تنتظر دورها في السيطرة على الحكم وإدامة القمع. فإنطوان سعادة، مثلًا، يتمتع بين أتباعه في الحزب القومي السوري الاجتماعي بالقداسة. فهو الزعيم الخالد الذي يمثل الحقيقة وحده. وبقي خالد بكداش زعيما خَالِدًا للحزب الشيوعي السوري، حتى ورثته زوجته في قيادة الحزب بعد وفاته، التي تعد ابنها أيضًا لخلافتها بعد رحيلها.
والعربي في نظره لديه مسلمات دينية واجتماعية يفسر من خلالها المستجدات والوقائع الجديدة. فالعربي يتناول أفكاره من خارجه، بينما الياباني يستنتج أفكاره من الواقع المعاش، ويضيف حقائق جديدة من تجاربه، فالعربي يجتر الحقائق التي اكتشفها في الماضي البعيد. وليس أدل على صحة كلامه هنا، من خلافاتنا المذهبية التي لا تستند إلى الواقع المعاش وحاجتنا للوحدة، بقدر ما تستحضر خلافات وأحداثًا وقعت قبل ألف وأربعمائة سنة.
وضرب المؤلف مقارنة لذلك في كيفية تصرف اليابانيين بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، حين أجروا نقدا ذاتيًا قاسيًا على أنفسهم، واستبعدوا العسكر من قيادة البلاد. ولَم تكن المشكلة لديهم الحقد على أمريكا من عدمه، ولكن أرادوا أن يعرفوا دورهم بشكل صحيح، ويختاروا الطريق الذي يصحح الانحراف ويمنع تكراره مستقبلا.
وبينما يعاني الألمان عقدة التفوق، واليابانيون عقدة الدونية، فقد وجد الكاتب أن العرب يعانون عقدة الشرف. فهم يخافون من العار. ويدفعهم ذلك أحيانًا إلى الازدواجية في شخصياتهم. فهم أشخاص لهم قيم في بيوتهم مختلفة عن تلك التي يمارسونها خارج بيوتهم. وفي رأيه، ينتج عن تلك الازدواجية أشكال لا عد لها من الرياء والخداع والنفاق والقمع. وربما قد يفسر ذلك حرص كثير منا على أن يكون مظهره الخارجي يوحي بالاستقامة، بينما هو يمارس سرًّا كل الموبقات.
كما لاحظ الكاتب ان المجتمع العربي يعيش أزمة ثقة. فاليابانيون استعادوا الثقة داخل مجتمعهم بعد ان فقدوها بعد الحرب. فالناس في اليابان، يعملون بضمانة الثقة في كل تعاملاتهم اليومية، سواء كان ذلك داخل الأسرة أو خارجها. أما في المجتمعات العربية، فقد لاحظ الكاتب انعدام الثقة التي هي أساس كل نهضة وتقدم. وأشار الكاتب إلى ما رواه يوسف إدريس عن سر نهضة اليابان عندما رأى في منتصف الليل عاملًا يعمل وحيدا بكل جد ومثابرة، دون أن يراقبه أحد.
فكثير من العلاقات في الوطن العربي تقوم على الصلات الفردية أو الخدمة الخاصة، أو الرشوة، لأن غياب الثقة تحل محله المنفعة المتبادلة، كما نعبر عنه بالعامية «امسك لي واقطع لك» أما في اليابان، فالثقة بصاحب العمل موجودة بشكل كبير، لأن هناك عقدًا قائمًا من الثقة غير مكتوب بين الموظفين وصاحب العمل. والثقة موجودة لديهم حتى في صحافتهم. أما العرب فلا يثقون بقادتهم أو صحافتهم، أو إدارتهم وأرباب أعمالهم. فالفلاح لا يثق بالتاجر، ولا يثق المواطن بالقضاء أو الأحزاب السياسية.
رَأى شَبَحًا وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ… فَلَمّا بَدا ضَيفًا تَشمَّرَ وَاِهتَمّا
فقال هَيا ربَّاه ضيفٌ ولا قِـرى… بِحقِّك لا تحرمْه تالليلةِ اللّحمـا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ… أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّرْ لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا… يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
«الحطيئة»
تطرقنا بشكل خاص إلى ما وصفه الكاتب الياباني «نوبوأكي نوتوهارا» بمشكلة العرب الأولى، ألا وهي القمع. فعندما يحتل الفرد موقعًا أعلى من غيره، فإنه يبدأ بممارسة القمع على من هم دونه.
وفي المقابل، أشار الكاتب إلى كثير من الأمور الإيجابية في حياة العرب. فقد كان مغرمًا بحياة البدو. وتعلم الكثير من ثقافتهم. فقد عُني بأدب الصحراء كثيرًا، ليس بحثاً عن الغرابة، ولكن بحثًا عن المعنى. وقد أدهشته النظرة المتعالية للمثقفين في الوطن العربي تجاه ثقافة البدو. فأصحاب المدن يجهلون كل ما خالف حياة الاستقرار. والحقيقة البسيطة هي أنه في الوقت الذي يبني فيه الإنسان البيت، فإن البيت بدوره يبني الإنسان. وبعكس البدو الرُّحل الذين يعيشون في أفق مفتوح ولا يربطهم منزل بعينه، فإن الإنسان المستقِر محبوس بفهمه وفكره وفلسفته في الحياة، في بيت مقفل معزول.
والبدوي، حسب رؤيته، يحكم حياته عاملان، وهما عدم الاستقرار في مكان، ووقوفه أمام الطبيعة القاسية وجهًا لوجه دون حماية. وهذا ولَّد لديه الشعور بعدم ضرورة الملكية، فالماء والعشب والنار ملكية عامة عند البدوي، لذلك، فهو يحتفظ بما هو ضروري فقط للبقاء على الحياة. وهذا خلق عنده شعورا بالقوة، وكذلك جعل الصبر رديفًا لطبعه. وهو صبر يختلف عن صبر ابن المدينة، لأنه صبر في مواجهة الطبيعة.
ويذكر الكاتب حكايةً بدوية تختصر معنى الصبر عند الطوارق. فقد أوصى رجل وهو على فراش الموت ابنه فقال: يا بني إن أردت أن تعيش حياة كريمة فلا تشرب إلا ماءً عذبًا، ولا تأكل إلا طعامًا طريًّا، ولا تركب إلا جملًا أصيلًا. فرد الابن قائلًا: يا أبتِ، كيف يستطيع شخص معدم مثلي أن يفعل ما أردت؟ فقال الأب: تحمل الظمأ إلى النهاية، فيصبح كل ماء تشربه عذبًا، ولا تأكل حتى يعضك الجوع، فيصبح كل طعام تأكله شهيًّا. وامشِ إلى جوار جملك حتى يهدك التعب، فيصبح أي جمل تركبه أصيلًا. فالبدوي يرى الجمال والسعادة في عيشه من خلال صبره وتحمله.
وما أذهله حقًّا هو كرم الضيافة عند العرب الذي ليس له مثيل في اليابان. فكثير من الناس بيوتهم مفتوحة للزائرين في أي وقت، وهو يرى ان هذا الشكل من العلاقة بين الزائر والمكان لا يحدث في اليابان إلا في المعابد. ورأى الكرم في أعلى معانيه يتمثل في البدوي الذي يجود بكل ما يملك لضيفه، بينما قد يتردد ابن المدينة الميسور بأن يجود ببعض ماله. والبدوي في نظره، هو خير من يدرك معنى الآية: «وجعلنا من الماء كل شيء حي،» باعتماده كليًّا على المطر، كونه يمثل مفهوم الخير لديه. والبدوي كريم ونبيل، لا يختار ضيوفه كالحضري، فهو يقدم الضيافة لأجل الضيافة. وهو يقدم حياته رخيصة عند مواجهة الخطر. ولأن البدو يتحدَّون الطبيعة باستمرار، فإنهم لا ينحرفون أخلاقيًّا، ويتمسكون بقيمهم بقوة. فالصحراء تعني «المطلق،» فالبدوي لا يعرف التسوية أو الوسطية. فهو متطرف دائما في كرمه وصبره وأخلاقه، وعنفوانه.
ويستقي الكاتب من الروائي الكبير إبراهيم الكوني في مجموعته القصصية «القفص،» أنه «لا يوجد في الصحراء أي شيء، وفي الوقت نفسه يوجد كل شيء.» فالصحراء غنية بفقرها، وكريمة بشُحِّها، وصاخبة بهدوئها. ويهدينا فلسفته البارعة في سكون الصحراء، بقوله «إن تراب الفلسفة في الصحراء هو الصمت.» وتوصَّل الكاتب إلى حقيقة صحراوية مضمونها أن القراءة والكتابة ليست وحدها مقياس العلم والجهل. فالبدوي ليس جاهلًا لان لديه فلسفته الخاصة في الحياة والموت.
وبرغم هدوء الصحراء، فالبدوي دائمًا مستنفَر ينتظر المعركة. بينما تقود الراحة الحضري إلى التراخي والكسل، فتصبح حياته رخوة. والبدوي لا يعرف الملل أو الضجر، فهو ينتظر في خيمته ساعات طوال أثناء النهار، وقت شدة حرارة الشمس والعجاج حتى تغيب الشمس، فتبرد الأرض بعد ساعات، ويهب النسيم العليل.
فالصحراء هي المكان الذي يواجه فيه الإنسان نفسه ويكتشف قيمته، دون ان يستطيع الهرب من هذه المواجهة. ولذلك، فالكاتب يعتقد أن الصحراء هي موطن العقيدة بامتياز. ومن أتعبه البحث عن عقيدة في أي مكان، فبإمكانه أن يجدها في الصحراء. فالبدوي كما يقال: «يطلب الحليب من الناقة والولد من زوجته، ولكنه لا يطلب الماء إلا من الله».
والكاتب يعتقد «إذا انقرضت الثقافة الصحراوية البرية، فإن البشرية كلها ستخسر وجهًا عظيمًا من وجوهها الثقافية» وهو في استنتاجه هذا يشبه الكاتب «أسعد علي» في كتابه «البداوة المنقِذة،» الذي يرى أن البداوة هي السبيل لإنقاذ العالم من علّتي «التراخي والأنانية،» اللتين هما أصل كل علله الجسدية والروحية.
وفي النهاية يرشدنا الكاتب بكلمات بسيطة صادقة، بأن سبيل العرب إلى النهضة يأتي من خلال إقامة العدالة الاجتماعية، والوحدة العربية، والنهوض العلمي، وبناء علاقات تصالحية جديدة داخل المجتمع نفسه ومع الخارج.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.